الأربعاء، أكتوبر ١٠، ٢٠٠٧

سورتيت

كانت تتبعه كظله..خطوة بخطوة..تمشي اذا مشي.. وتقف اذا توقف..كان هو ذلك الرجل الريفي المتصبب عرقا في ذلك الوقت من الظهيرة.. والذي يبدو من هزال جسمه واصفرار بشرته أن كبده لم يعد يعمل بكفاءة .. ربما بسبب ال"بلهارسيا" او "فيروس التهاب الكبد الوبائي"..كان يبدو أنه انتهي لتوه من يوم عمل شاق في المدينة المزدحمة,و قد جاء الي هذا"الموقف " ليستقل سيارة تعيده الي قريته..

فقد وقف - مع ما يقرب من خمسين غيره – في انتظار سيارة الاجرة - ذات الاربعة عشر مقعدا– و التي تتجه من القاهرة الي احدي تلك القري وتمر في طريقها علي قريته..

و كانت ابنته التي لم تتعد السابعة تبدو وكأنها قد ربطت اليه بخيط خفي..تمشي وراءه وتقبض بكلتا يديها علي حقيبة بلاستيكية بحجمها تقريبا..

عينان بريئتان مذهولتان من هذا الزحام.. وضفيرة قصيرة صنعت بغير عناية تتدلي من شعرها..ذلك الذي يحضنه- برغم خشونته - طوق شعر بلاستيكي من ذلك الذي تسميه اختي الصغري "سورتيت"..
وكأن هذا ال"سورتيت" هو الشئ الوحيد الذي قرر أن يحنو علي هذه الطفلة..

كان الرجل يروح ويجئ.. وكأنه اسد في غابة..قلقا في انتظار السيارة.. وكانت خطواتها خلفه قصيرة مرتبكة..تتوسم بعض الامان في خطوات أبيها.. ذلك الذي لا تري منه الا ظهره..و الذي برغم هزاله وضعفه لابد أنه يعرف كل شئ.. ولا يعجزه شئ..

ساعة كاملة تقريبا..ظل فيها الجميع واقفين منتظرين مجئ السيارة المرتقبة.. والتي بدا انها الأخيرة لهذا اليوم..
وكأن الشمس هي الاخري قد تامرت علي هؤلاء العمال المتعبين..فأرسلت أشعتها الحارقة لتوسوس للجميع بالتحفز.. وكلما مر الوقت اشتدت الحرارة وزاد الناس جنونا و تحفزا..لن يفوت أحد الفرصة مهما حصل..

كانوا ينظرون حولهم في جميع الاتجاهات في تلهف مجنون.. وكل واحد يتمني أن تاتي السيارة من اقرب مكان له..ليصل اليها قبل غيره ..

و قد كان..

دخلت السيارة مسرعة الي ال"موقف".. وسائقها المتهور يعرف الكنز الذي ينتظره..

و هنا هجم الناس علي السيارة بجنون من جميع الاتجاهات.. واخذوا يتدافعون نحوها بشراهة..كانهم مجموعة من ال"زومبي" التفت حول ضحية..

كانوا يقفزون اليها من كل مكان..بعضهم لم يستطع أن يصل الي الباب فتسلقها ودخل من النافذة..البعض صعد الي السطح.. والاخرون ظلوا يتعاركون أمام الباب.. والسائق في وسط كل هذا يجلس في مكانه مبتسما..ينتظر نهاية المعركة حتي يأخذ المنتصرين ويمضي ..
و استمرت المعركة..وكلما قل عدد الاماكن الخالية داخل السيارة..كلما حمي الوطيس واشتدت المعركة شراسة..

حتي سمعت من وسط الجموع المتصارعة طفلة تصرخ بجنون" أبويا..أبويا.."كررتها عدة مرات ثم بدات في البكاء الهيستيري..لكن ذلك كله لم يوقف المعركة الدائرة امام الباب.. وكأن شيئا لا يحدث.. ومن داخل العربة..كان رجل يصرخ في الجموع بذعر حقيقي كي يسمحوا له بالخروج..لكن احدا لم ينتبه له..
فأخذ يدافعهم – برغم ضعفه – حتي وجدته يخرج من وسط الضباع المتقاتلة علي العربة كقطعة قماش مهلهلة..
ساحبا في يده طفلته الباكية المذعورة..كان الرجل قد قفز الي السيارة ليحجز مكانا له ولابنته..لكن تدافع الجموع منعها من اللحاق بأبيها..

وبلهفته علي ابنته التي كادت تضيع منه.. وبحسرته علي المقعد الذي استطاع الحصول عليه بجهد.. وبانكساره أمام نفسه وأمام ابنته وأمام كل هذا القهر..
لطمها علي
وجهها.. وأخذ يهزها بعنف..ويسألها لم لم تتبعه كما أمرها..
كان يصرخ وكأنه لا يراها.. وكانت تبكي وكأنها لا تسمعه..
ثم نظر نظرة أخيرة متحسرة علي السيارة التي كانت قد امتلأت وتتأهب للرحيل ,تاركة خلفها كل هؤلاء المهزومين الذين لم يتمكنوا من ركوبها..
فقبض علي يد ابنته بغضب.. وانصرف. ولم أدر الي أين..

و بعد دقائق..كان الجميع قد انصرفوا.. وكان المكان خاليا الا من بقايا الحسرة.. وطوق شعر بلاستيكي من ذلك الذي تسميه أختي الصغري "سورتيت" ملقي علي الأرض في امتهان..

هناك ١٧ تعليقًا:

غير معرف يقول...

صديقى وأخى العزيز يامن
كل سنه وانت طيب والجميع بألف خير
يسعدنى ويشرفنى ان اكون اول من يكتب لك تعليق بعد كل هذا الغياب الطويل.
انا اول ماقرأت العنوان ده ضحك كتير لأنى كنت بالصدفه لابسه سورتيت فى شعرى فوضعت يدى عليه لكى لا يقع على الارض.

حكاياتك جميله ووصفك هايل جدا والقصه معبره جدا على واقع مأساوى للمواصلات فى بلدنا ..معلش ربنا حابعتلهم عربيه تانيه على طول . شئ تانى هو قسوة الاب على ابنته بالرغم من كل ظروف عمله الشاق الله يكون فى عونه.

المهم انك رجعت تكتب تانى من فضلك ماتتاخرش فى الكتابه وماتخليش الشغل يبعدك عن الحاجات اللى بتحبها... من فضلك..

استمر وربنايوفقك

اختك
h.hashem

غير معرف يقول...

اولا كل سنه وانت طيب
تانيا..احلى القصص هى اللى بتبقى قدام عنينا وبنشوفها ومابناخدش بالنا منها
انا شايفه الابداع فى وصف الصوره دى

Lemonada يقول...

ياااااااااااااااااااه
واحشتني كتباتك ييامن
انت كدة تغغغغغييييييييييييييييب وترجع بحاجة جامدة طحن موووت تعوض بيها فترة التأخير
مش عارفة بس بجد مؤثرة جدا
وكلامك ووصفك كان اكثر من رائع
تحياتي

Dr. Awsam Wasfy يقول...

جميلة جداً . مُبكِية. كم نحتاج من البكاء حتى تتغير الأشياء.

عمرو غريب يقول...

رائع يا سلام والله شي جميل

yamen يقول...

اختي ه.هاشم:

نورتي المدونة
انا متشكر ليكي علي هذا الترحيب
بس انتي اكتر واحدة عارفة الشغل قد ايه متعب وممل

اشوفك علي خير
تحياتي


العزيزة وينكي:

اولا.. وانتي طيبة وبالف خير وصحة وسلامة

ثانيا..عندك حق..الحياة حوالينا مليانة قصص وحكايات اكثر غرابة مما يمكن ان نتخيله
و جماله مش بس في انه غريب.. ولكن في انه حقيقي

حتي الالم اللي فيه حقيقي

ثالثا..اشكرك بجد علي رايك ده وعلي فكرة زيارتك لمدونتي تعني لي الكثير

تحياتي


ليمونادااااااااااا:

اولا حمدالله علي السلامة

ولو انها متاخرة شوية
طبعا انا مش محتاج اقولك الغياب ليه
لان انتي عارفة
ثانيا والله مش عارف اقولك ايه
علي الكلام الجميل ده
ده بس والله من ذوقك

تحياتي

yamen يقول...

الدكتور العزيز اوسم وصفي:

لعلك قرات الموضوع المنشور علي موقع بص وطل عن كتابك الذي غير حياتي
ولعل هذا هو ما هداك الي مدونتي

انا مش عارف اوصفلك قد ايه فرحتي بزيارتك دي

بجد زيارتك تعني لي اشياء كثيرة جدا
اوجل الحديث فيها عندما القاك ان شاء الله

تحياتي وارجو الا تكون هذه الزيارة هي الاخيرة

yamen يقول...

عمرو غريب:

اشكرك يا عزيزي الرياضي

تحياتي و كرر الزيارة دائما

إنسان || Human يقول...

يااااه ..أنا شوفت المشهد ده كتير ..ولكنك وصفته كما لو كنت قرءته داخلي
...
رائف فعلا يا يامن
كل سنة وانت طيب

Dr. Awsam Wasfy يقول...

عزيزي يامن
أنا بالفعل سعيد بكتاباتك وكتابات كثيرين ممن لا يزالوا يُشْعُرُون ويُشعِرون. لقد تعرفت عليك من خلال مدونتك التي ذكرت فيها كتابي في حوار " تاج الجزيرة" أما موقع بص وطل فلم أزره إلا لأقرأ قصيدتك الأخيرة الجميلة
ربنا يوفقك

وبمناسبة الشعور والإحساس أحب أن أشاركك برباعية كتبتها منذ أكثر من عشر سنوات

على نصبة الجرايد ألف صوت وصوت
فخاد وعمايم وناس بلبس الكهنوت
وناس تلم الغنايم
وناس جعانة
وناس تحاول تحسّ
واللي يحس يموت
عجبي

Ahmed Al-Sabbagh يقول...

نظرا لتميز مدونتك تمت أضافتها لدليل الصباغ للمدونات

===============================

شاركنا الشعب الأمريكى أحزانه على ضحاياه فى ذكريات سبتمبر/أيلول الأليمة

لكن دعونا نُذّكر العالم بالجرائم الأمريكية التى أرتكبتها الولايات المتحدة ضد أبرياء وأطفال ومدنين

شارك وأدعم فكرة تخصيص يوم 30 أكتوبر يوما للجرائم الأمريكية


أحمد الصباغ

أحمد سلامــة يقول...

يامن :
اسلوب مبدع وفلاش رائع
بجد احييك عليه
عجبتني طريقة السرد والمقدمة المشوقة والخبيثة ايضا
تسلم ايدك
كنت فين يا صديقي من زمان
:)

غير معرف يقول...

A7'eran zahart ya yamen,7amdella 3la elsalama,3awza a2olak en e7sasak belmawdo3 3ali awi w edert twasalholna boslob gamil awi,begad matet2a7'arsh 3lena keda tani w rabina ye3enak 3la elsho3'l esa salam Radwa Talal

fawest يقول...

طبعا فاكرك
وحد ينسى وقفة"الرجالة"قوى
المهم
مكنتش اعرف ان انت قاص جميل كدة
القاص الجميل فى نظرى هو من يشدنى الى نهاية الحكاية و يمتعنى
و فد فعلت
ولم تنسى مجالك فى القصة
اقصد البلهرسيا

حسن أمين يقول...

أسميها ايه ؟
قصة ولا حكاية ولا حدوتة ولا موقف ولا مشهد ولا نظرة زي بتاعة ادريس ؟
هابقى عبيط جدا لدرجة السذاة لو قلت لك دي حلوة أوي
أصلها مُرة أوي
ومش عارف يجوز اني أقولك تسلم ايدك وإحساسك على طبق المرارة ده ولا لأ .
عموما .. كل ما هو إنساني ..فهو إنساني ..لا نستطيع الجزم بكونه مُقبض أو واقعي ..بقدر ما نشعر بها أو لا نشعر .
وانا اتهزيت من جوه بالمكتوب ..مع إنه عادي جدا انه يحصل ..يمكن قوة القصة انك عملت قصة استثنائية من حدث لااستثنائي ..بل اعتيادي لدرجة مخيفة .
تحياتي لريشتك الرائعة ..أيها الإنسان

FATMA يقول...

طريقتك في السرد حلوة اوي

غير معرف يقول...

ممكن أستغل المساحه دى واعمل اعلان صغير
نوفمبر يا جماعه16 ..مستنياكو يوم الجمعه الجايه الساعه 8 م..قاعة الحكمة بساقية الصاوى
هانتقابل ونحضر حفلة لفرقة أيامنا الحلوه..واحده من اكبر التجمعات البلوجرية المهمه
تعالوا وقولوا للحبايب