سورتيت
كانت تتبعه كظله..خطوة بخطوة..تمشي اذا مشي.. وتقف اذا توقف..كان هو ذلك الرجل الريفي المتصبب عرقا في ذلك الوقت من الظهيرة.. والذي يبدو من هزال جسمه واصفرار بشرته أن كبده لم يعد يعمل بكفاءة .. ربما بسبب ال"بلهارسيا" او "فيروس التهاب الكبد الوبائي"..كان يبدو أنه انتهي لتوه من يوم عمل شاق في المدينة المزدحمة,و قد جاء الي هذا"الموقف " ليستقل سيارة تعيده الي قريته..
فقد وقف - مع ما يقرب من خمسين غيره – في انتظار سيارة الاجرة - ذات الاربعة عشر مقعدا– و التي تتجه من القاهرة الي احدي تلك القري وتمر في طريقها علي قريته..
و كانت ابنته التي لم تتعد السابعة تبدو وكأنها قد ربطت اليه بخيط خفي..تمشي وراءه وتقبض بكلتا يديها علي حقيبة بلاستيكية بحجمها تقريبا..
عينان بريئتان مذهولتان من هذا الزحام.. وضفيرة قصيرة صنعت بغير عناية تتدلي من شعرها..ذلك الذي يحضنه- برغم خشونته - طوق شعر بلاستيكي من ذلك الذي تسميه اختي الصغري "سورتيت"..
وكأن هذا ال"سورتيت" هو الشئ الوحيد الذي قرر أن يحنو علي هذه الطفلة..
كان الرجل يروح ويجئ.. وكأنه اسد في غابة..قلقا في انتظار السيارة.. وكانت خطواتها خلفه قصيرة مرتبكة..تتوسم بعض الامان في خطوات أبيها.. ذلك الذي لا تري منه الا ظهره..و الذي برغم هزاله وضعفه لابد أنه يعرف كل شئ.. ولا يعجزه شئ..
ساعة كاملة تقريبا..ظل فيها الجميع واقفين منتظرين مجئ السيارة المرتقبة.. والتي بدا انها الأخيرة لهذا اليوم..
وكأن الشمس هي الاخري قد تامرت علي هؤلاء العمال المتعبين..فأرسلت أشعتها الحارقة لتوسوس للجميع بالتحفز.. وكلما مر الوقت اشتدت الحرارة وزاد الناس جنونا و تحفزا..لن يفوت أحد الفرصة مهما حصل..
كانوا ينظرون حولهم في جميع الاتجاهات في تلهف مجنون.. وكل واحد يتمني أن تاتي السيارة من اقرب مكان له..ليصل اليها قبل غيره ..
و قد كان..
دخلت السيارة مسرعة الي ال"موقف".. وسائقها المتهور يعرف الكنز الذي ينتظره..
و هنا هجم الناس علي السيارة بجنون من جميع الاتجاهات.. واخذوا يتدافعون نحوها بشراهة..كانهم مجموعة من ال"زومبي" التفت حول ضحية..
كانوا يقفزون اليها من كل مكان..بعضهم لم يستطع أن يصل الي الباب فتسلقها ودخل من النافذة..البعض صعد الي السطح.. والاخرون ظلوا يتعاركون أمام الباب.. والسائق في وسط كل هذا يجلس في مكانه مبتسما..ينتظر نهاية المعركة حتي يأخذ المنتصرين ويمضي ..
و استمرت المعركة..وكلما قل عدد الاماكن الخالية داخل السيارة..كلما حمي الوطيس واشتدت المعركة شراسة..
حتي سمعت من وسط الجموع المتصارعة طفلة تصرخ بجنون" أبويا..أبويا.."كررتها عدة مرات ثم بدات في البكاء الهيستيري..لكن ذلك كله لم يوقف المعركة الدائرة امام الباب.. وكأن شيئا لا يحدث.. ومن داخل العربة..كان رجل يصرخ في الجموع بذعر حقيقي كي يسمحوا له بالخروج..لكن احدا لم ينتبه له..
فأخذ يدافعهم – برغم ضعفه – حتي وجدته يخرج من وسط الضباع المتقاتلة علي العربة كقطعة قماش مهلهلة..
ساحبا في يده طفلته الباكية المذعورة..كان الرجل قد قفز الي السيارة ليحجز مكانا له ولابنته..لكن تدافع الجموع منعها من اللحاق بأبيها..
وبلهفته علي ابنته التي كادت تضيع منه.. وبحسرته علي المقعد الذي استطاع الحصول عليه بجهد.. وبانكساره أمام نفسه وأمام ابنته وأمام كل هذا القهر..
لطمها علي وجهها.. وأخذ يهزها بعنف..ويسألها لم لم تتبعه كما أمرها..
كان يصرخ وكأنه لا يراها.. وكانت تبكي وكأنها لا تسمعه..
ثم نظر نظرة أخيرة متحسرة علي السيارة التي كانت قد امتلأت وتتأهب للرحيل ,تاركة خلفها كل هؤلاء المهزومين الذين لم يتمكنوا من ركوبها..
فقبض علي يد ابنته بغضب.. وانصرف. ولم أدر الي أين..
و بعد دقائق..كان الجميع قد انصرفوا.. وكان المكان خاليا الا من بقايا الحسرة.. وطوق شعر بلاستيكي من ذلك الذي تسميه أختي الصغري "سورتيت" ملقي علي الأرض في امتهان..