"شيطان.. رقيق"
ألا يبكي هذا الطفل ابدا..
دخل هذا "الطفل" الي المترو الذي اركبه بصحبة امه مفرطة البدانة، واخيه الذي كرهته لأنه ذكرني بي صغيرا..مثال الطفل الاحمق..السمين..منكوش الشعر..متسخ الوجه..لا يكف عن احلام اليقظة.. وتخيل نفسه في صور ليست هو علي اية حال..
اما الصغير..والذي لا يتعدي عمره السنوات الست..فقد كان هو الطفل الذي يخيفني ما بداخله اكثر من شفقتي عليه..طفل نحيف ..واسع العينين..كف عن الشعور بالألم منذ فترة..فما عادت تؤثر فيه ضربات امه المبرحة المليئة بالغيظ الغريب علي الامهات.. ولا شتائمها المهينة.. والتي لا تفعل فيه الا ان تؤكد له انه نجح في اثارة اعصابها..و ذلك يمتعه حقا..فيزيد في استفزازها اكثر فاكثر..حتي تياس و تكف عن كل شئ..و هنا فقط..يهدأ..
في انتظار أن تستعيد قوتها علي الانفعال مرة أخري..و هكذا..
دخل وفي يده "بوستر" ملفوف.. وهو يردد في حماسة عصبية.."ارقص..يا حضري"..و من فرط انفعاله يحدث اخيه البدين عن عصام الحضري وعن صورته التي اشترتها له امه بعد عناء والحاح شديد..و هو لا يكف عن ترديد.."ارقص..يا حضري"..و بينما هو يتكلم الي اخيه ..يوجه حديثه الي الركاب الواقفين في المترو..فواحد يتجاهله واخر يبتسم له في صمت..
كان في قمة انفعاله..
حتي قرر اخوه السمين الاحمق أن يمارس عليه دور الاخ الأكبر في أحد أحلام يقظته..فنهاه عن الكلام لأنه يؤذي الركاب..
فرصة لا تعوض بالنسبة له.. لكي يثير أعصاب هذا الاخ الاحمق..و هذه الام التي ترقب كل ذلك صامتة مترقبة..
فقال له الصغير في وقاحة.."انت هاتعمل عليا كبير ولا ايه يا عم"..ارتبك البدين للحظة..ثم حاول ان يضربه ضربة كانت خائفة مترددة كصاحبها..فتفاداها الصغير بخفة.. وذهب الي الجانب الاخر من العربة..مبتسما متلذذا باثارة اعصاب اخيه..الذي قال محذرا"ماشي..لما نروح البيت هاوريك"..كانت هذه اسعد لحظات الصغير..اذ يري اخاه الكبير محرجا وعاجزا عن التصرف..فاخذ يقول"يا عم روح ياعم" ويخرج له لسانه في استفزاز..
لم يجد الكبير ما يفعله..فردد تهديده للحظات ثم ادار ظهره لينظر من زجاج المترو باحثا عن حلم يقظة اخر..
لكن الصغير لا يرتاح لهذا الهدوء..فاقترب من أخيه الغافل.. وضربه بال"بوستر"الملفوف الذي يحمله علي مؤخرته الممتلئة..فجن جنون الكبير ودار يسب ويلعن والاخر غارق في الضحك..يلوح بال"بوستر" في الهواء مانعا اخاه من الاقتراب والاخر يحاول ان يقترب منه لياخذ ال"سلاح" فلا يستطيع..احيانا ينجح في توجيه ضربة او اثنين الي الصغير الذي لا يبدي اي تعبير عن الألم..الضرب كان مبرحا علي صغير مثله..مما اثار غيظي..الا يبكي هذا الشيطان ابدا..واخذ الصراع يحتدم.. والصوت يعلو.. وضحات الصغير تزداد شراسه..وسباب الكبير البدين يزداد علوا وعجزا.. و كلاهما يحاول ان يستحوذ علي السلاح الفتاك..
و هنا قررت الام انه لابد من التدخل..فتحركت من مكانها قليلا وكانها "أبو الهول" يفيق من سباته العميق..حتي اني شعرت ان بعض الرمال سوف تتناثر حول مقعدها..
وقالت في هدوء مرعب.."هات البتاعة دي"و كان الكبير قد استطاع لتوه ان يحصل عليها..فنظرلها الاثنان في خوف..و نظرا لبعض..الا ان اللهجة علت قليلا مما ينبئ بعاصفة قادمة.."هات البتاعة دي"..فسلمها الكبير اياها في خوف.. وابتعد كلاهما عنها بمسافة كافية وجسداهما ينتفضا..فامسكت الام ال"بوستر"بهدوء..و قطعته الي نصفين..ثم الي اربعة..و بهدوء قاس..قالت للصغير.."خد"..
مد الصغير يده واخذ بقايا لوحته..و لم يقل شيئا..و بدا عليه الارتباك.. والعجز..ثم ادار وجهه..لينظر من زجاج المترو..
وبكي..