الاثنين، ديسمبر ١٤، ٢٠٠٩

رواية اخري لمشهد رحيل النبي


كان هذا آخر ما كان من ذلك النبي المغمور وقريته..كما جائنا علي لسان الراوي..قال الراوي:
"وعند باب القرية..وقف النبي علي صخرة عالية..كان قد رآآها عند دخوله القرية اول مرة.. ووعدها- واثقا كما بدا ساعتها- انها ستكون صخرة ذات شأن بعد حين..ولم يكن يعلم ساعتها انه سيقف عليها قائلا خطاب وداعه لأهل القرية التي بعث نفسه اليها..
وحوله اجتمع الناس ذاهلين..لم يتوقع احدهم ابدا انه سيسمع منه – هو بالذات- كلاما مثل هذا..برغم انهم لم يكونوا جميعا من المؤمنين به..الا ان اقلهم اهتماما كان يحترمه ولا يناله بسوء ابدا..وكان يتوقع منه ان يفعل شيئا ما لهذه القرية..هم فقط كانوا ينتظرون منه ان يحقق اي شئ يتمسكون به كي يصدقوه..كانوا ينتظرون معجزته.. كان يقول لهم دوما " آمنوا بانفسكم..ولا تؤمنوا بي..أنتم المعجزة..أنت سادة الارض وملاك الارادة.. تستطيعون ان تكونوا..اذا اردتم..فقط..اريدوا..وستكونوا"..كان اذا أخذ في الكلام بهذه الطريقة..وكانت له طريقة مميزة في السرد..كانوا يجتمعون له ويصمتون كأن علي رؤوسهم الطير..وكانت ترتسم علي وجوههم ابتسامة راضية صافية كأن كلامه قد لمس قرارة قلوبهم..فأضاؤوا..
لكنه كان اليوم مختلفا..كان يبدو كالمجنون..كانت ملابسه رثه..كانت عيناه حاجظتان كانما لم ينم منذ ليال عدة..كان يبدو كعابري السبيل الذين اعياهم طول الطريق..وقد وقف علي الصخرة صارخا في الناس بصوت قارب البكاء:
"أيها الناس..لا تصدقوا كل ما قلت لكم..لم اقل لكم طول الايام الماضية الا كذبا..ايها الناس..قد قلت لكم قبل اليوم احبوا بعضكم بعضا..وكونوا في حبكم كالمستيقظ طول الوقت..لا تسكروا ابدا بخمر تلك الصورة التي ترونها في مراياكم..وافتحوا اعينكم دوما لكي تروا ما لا تكشفه المرايا..فليست المرايا عاجزة..انما اعينكم هي التي تعجز عن الرؤية..وان انتم لم تروا من تحبون ولم تروا انفسكم..كنتم كالسكران يعشق خيالا صنعه لنفسه..
لا تصدقوني في كل ما قلت..فقد طالبتكم بالرؤية..وأنا اعماكم عنها..بل انا اجبنكم عن ان افتح عيني لأري..
وكنت قد قلت لكم..اعطوا بعضكم بعضا..كانما تملكون ملئ البحر محبة..وكأنما لا تنتظرون أن يعطي لكم..أو كأنما اوتيتم من السماء اسبابا..او كأنما تعطيكم الملائكة من حبها فيضا..وليكن عطاؤكم عطاءا..واخذكم عطاءا..كونوا كالسحابة تعطي من فيض الامتلاء..ولا تكونوا كالبئر تأخذ تنشد الامتلاء..
كذبتكم..فانا من كان عطائي اخذا..واخذي اخذا..أنا من كنت كالبئر الخاوية في أخذها وعطائها..فاذا أخذت منها ابتعد الماء عنك.. فكان عليك ان تعطيها اكثر مما تأخذ منها..ولم اكن لأعطيكم الا لآخذ منكم..
وكنت قد قلت لكم..كونوا انتم كما انتم..ولا تكونوا كما تريدوا ان تكونوا..فانتم افضل مما تريدوا ان تكونوا..ولا يغرنكم الشر الذي تجدونه في نفوسكم..فهو طفلكم الذي يريد حضن ابيه وامه..ليكون لهم افضل مما يظنون به..ولا يسكنن احدكم بيت الشجرة كي يعرف اكثر..بل يجري في الحقل وان تضمخت قدماه بالطين حتي لا يبدو منهما شيئا..فان بكي ندما.. فليذكر انه هكذا..يعرف اكثر
لا تصدقوا كل ما قلت لكم..فقد كنت احدثكم طيلة الوقت من فوق بيت الشجرة..وكان الطين الذي ترونه علي قدمي مستعارا..كاستعارات الكناية
أيها الناس..ان كنت قد قلت لكم..ابناؤكم زهرة الايام وحبات اللؤلؤ..اغلي من ان تترك..فاعلموا ان جميع زهوري قد ذبلت..وان جميع اللالئ قد صغتها عقودا..أزين بها أوقات الفراغ..
ايها الناس..ان كنت قد وضعت يدي في يد احدكم يوما..لأنهضه من عثرته..فليعلم اني ما وضعت يدي في يده الا لاتكئ عليها..لا لأشد ازرها..
ايها الناس..ان كنت قد قلت لكم اني اري ما لا ترون..فلا تصدقوني..فلم اكن حتي أراكم..ايها الناس..ان كنت قد قلت لكم ان قلبي قد وسعكم..فلا تصدقوني..فلم يكن حتي يسعني..ايها الناس..ان كنتم قد حدثتم انفسكم يوما بأنني كاذب..فصدقوا انفسكم..ولا تصدقوني..صدقوا انفسكم..ولا تصدقوني..."
ثم صمت لحظة حتي هدأ نشيج صدره..والناس لا تدري ما تقول..ما بين مؤمن به يبكي..وبين متربص به يبتسم في تشف..لكن الاكثرية كانوا ممن ينتظرون المعجزة..وهؤلاء كان يهولهم الموقف..الا انهم كانوا يحمدون الله في انفسهم انهم لم يسارعوا بتصديقه..
ثم نزل عن الصخرة مستندا علي عصا خشبية مهترئة..ومشي نحو باب القرية بخطا مثقلة..موليا اهل القرية المذهولين ظهره..وقد اخذوا يتبعوه بابصارهم حتي غاب عن البصر..
ولم يسمع احدهم به بعد ذلك لسنين عدة..حتي بدأت الاخبار تفد الي القرية انه قد مات..وأن قري اخري قد اقامت له مقامات واضرحة..لكن احدا لا يعلم اين مات علي وجه التحديد..واي مقام من تلك المقامات هو حقا مقامه..ولم يصدق احد ذلك الطفل الذي اتي الي القرية قائلا لاهلها انه رآه علي مقربة من القرية تحت شجرة محدقا في الافق..لا يتكلم ولا يتحرك..وقد نحل جسده وصار مهترئا كثيابه..وكلماته التي لم يعد احد يذكرها..